فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي والوضعي ودور الحقوق المدنية فيها
علي أحمد الهنداوي (*)
الملخص
يدور هذا البحث حول بيان معنى الحق وأبعاده من حيث مصدره ووظيفته ونطاقه وغايته، ودور ما يعرف بالحقوق المدنية أو الطبيعية أو حقوق الإنسان في ضوء هذه الأبعاد، وهو دراسة مقارنة في المنظورين الإسلامي والوضعي.
وتهدف هذه الدراسة التحليلية التأصيلية إلى التوصل إلى المنهج الصالح لحكم الواقع والارتقاء به وعلّة ذلك، بعد بيان أوجه الشبه والخلاف في أحكام الحق في المنهجين الإسلامي والوضعي، ولا يخفى ما لهذه الدراسات المقارنة من أهمية بالغة في صعيد دراسة علوم الشريعة، والقانون، والسياسة.
وقد ظهر لنا جلياً أن المنهج الصالح هو الذي يحقق للإنسان دوره الاستخلافي عن الله تعالى لا عن النفس، وذلك بربط العوالم به وبوظيفته بعد صهر علومها في بوتقته. وانتهينا إلى ضرورة الرجوع إلى المنهج الشرعي الإسلامي، وترسيخ العمل به، ومواجهة التحديثات التي تهدده في مقوماته، لإصلاح الواقع – الفرد والمجتمع – بتجاوز السلبيات، والارتقاء به من ثم إلى ما يجب أن يكون عليه الواقع الإنساني من محاسن تميزه عن غيره، ولا يكون الصلاح كاملاً بغير ذلك لعدم اكتمال المنهج، والنقصان في المنهج يلزم منه نقصان الآثار أو الأحكام التي يحتاجها الواقع لصلاحه، فضلاً عن أن نسبية الحقائق "السفسطة" ستكون أمراً لازماً له، وهي أخطر مرض شهدته وتشهده الإنسانية على مر العصور.
المقدمة
لقد تجاذبت الإنسان، منذ القدم، قضيتان هما؛ العدل والمصلحة. كان تحديد ماهيتهما والتوفيق بينهما، وما زال، أمراً عسيراً عنده بحسب ملكاته الذهنية. وقد ظهرت محاولات جادة من قبل فلاسفة عظام في تحديد معنى العدل، وبقيت محاولاتهم تلك وبحسب ما صرحوا هم به، لا تعدو كونها مجرد ظنون خالية من اليقين().
وكذلك يمكن أن يقال في المصلحة التي هي مقصد كل فعل إرادي ومنها القانون، من حيث كونه خطاباً إرادياً عاماً مجرداً ملزما... ()
أما التوفيق بينهما فهو أعسر من تحديد ماهيتهما، ذلك أن التوفيق بينهما ينبني على تحديد الماهية أولاً، ثم تحديد معايير التوفيق ثانياً، ثم يأتي بعد ذلك الفعل موافقاً أو مخالفاً. ولما تعذر تحديد الأولين تعذر تبعاً له تحديد كون الفعل موافقاً أو مخالفاً بيقين أو ظن غالب. فظل هم الإنسانية، في غير أهل الرسالات السماوية، البحث عن الأسس والضوابط والمقاصد ليجتمع الناس عليها، ولكنهم تفرقوا في ذلك لتفرق ثقافاتهم ومعتقداتهم ومقتضيات الواقع لكل منهم. ومن المعلوم أن تصادم مصالح الأفراد أمر ثابت لا مناص منه، وأن النفوس جبلت على الشح() وبالتالي لا مفر من إقامة النظام فيها. ولكن هذا يعيدنا إلى ما ذكر آنفاً، فكان الخروج من هذه الحيرة بالتصالح على أمر مفاده: كل ينظم واقعه بحسب ما يراه مناسباً. وعلى هذه الأرضية نمت وترعرعت وتكاثرت السفسطة() القانونية – (نسبية الحقائق).
فإذا جمعنا هذه النسبية مع الناموس الثابت تصادم المصالح مع شح النفوس، أنتج لنا هذا الجمع صراعاً داخلياً ودولياً مريراً. مبتدأه فلسفي، عقائدي ، فكري، ومنتهاه مادي وعسكري. وهذا هو سبب قيام الصراع الحضاري واستمراره. وأطراف الصراع الداخلي عادة هم الحاكم (المستأثر بالمصالح والمحكومون المحرومون منها إلا بالقدر الذي يبقيهم على وجه الأرض. وكان للقوة كلمة الفصل عند الحاكم، ثم تطورت وسائل الحكام من القوة المفرطة في تسخير المحكومين إلى إشاعة الوسائل الإقناعية بينهم من فكر وفلسفة مواليتين أو صراعات خارجية تصرف لها همم الرجال، ونحو ذلك ليكون التسخير بالإرادة لكل المحكومين أو لأكثرهم، فإن عارض الآخرون كانت القوة المفرطة بانتظارهم لتبطش بهم، وما من مغيث .
وانتهى المطاف إلى هذه المرحلة؛ تسخير الأضعف (المحكومين) للأقوى الحاكم أو أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، بالإرادة أو بالقوة. ولنجاح هذا الأسلوب داخلياً عمل به خارجياً أي في الصراعات الدولية التي تهدف إلى سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة ومن ثم على العالم بأسره لتغدو فيه قوة واحدة وفلسفة واحدة وبالتالي حضارة واحدة لا تنافس .
وقد اتخذ التصدير الحضاري هذا صوراً تقلب فيها تدرجاً نحو غايته تلك. فكان أن بدأ بالظهور بتطوره المادي ليبهر أنظار شعوب العالم ويصرفها إليه كمرحلة أولى، لخلق الشك بحضاراتهم لأنها لم تصل إلى ما وصل إليه الأقوياء، ولتهفوا النفوس من ثم إلى تلك الحضارة(). ومن خلال ذلك، ومن خلال حجة إعمار الخراب في الدول الضعيفة، تغلغلوا فيها وأوقعوا خلالهم. ثم جاءت مرحلة السيطرة العسكرية تحت اسم الانتداب والاستعمار، وفي تلك المرحلة مُزقت الأمم الكبيرة إلى دول ودويلات ضعيفة يسهل السيطرة عليها، وأبعدوا عن حضاراتها مقوماتها، وخاصة الحضارة الإسلامية، بإسقاط الخلافة الإسلامية وإبعاد العمل بالشريعة الإسلامية واستبدال قوانين المعتدي بقوانينها، لكونه الأقوى في طرفي المعادلة والسعي الحثيث في استبدال الأخلاق الغربية المادية بالأخلاق الإسلامية.
وتطور الأمر من ثمّ إلى مرحلة ترسيخ المبادئ والمفاهيم ومناهج التفكير المادية لتقف، عند أعتاب العلوم التجريبية، وما تفرزه من قوانين متنكرة لكل ما سوى ذلك ما جاءت به الشرائع السماوية وخضع له العقل السليم. وعرف هذا الاتجاه بالعلمانية وأريد به معنيان، أحدهما؛ الإشارة إلى الوقوف عند العلوم التجريبية دون تخطيها إلى غيرها لتسهل بذلك سيطرة الأقوياء على شعوب العالم، إذا اشتركت معهم في هذه المنهجية المادية، من حيث أنهم متقدمون كثيراً في هذه العلوم على تلك الشعوب. والثاني؛ العالمية التي حلموا بتحقيقها منذ زمن أرسطو والرواقيين من بعده، الداعين إلى ضم العالم كله تحت حكم جمهورية عالمية واحدة().
وبعد فشل جميع هذه المحاولات في تحقيق الغاية لتبين زيفها من جانب، ولإصرار الشعوب على التمسك بهويتها من جانب آخر، وأمام إصرار الأقوى على تحقيقها كون إخضاع الأضعف لإرادة الأقوى سنة كونية، يظهر حكمها عند غياب العدل().
فقد كشر الأقوى هذه المرة عن أنيابه أكثر من ذي قبل، وكاد يرفع القناع ويسفر عن حقيقة وجهه لولا أنه تريث ليرى ثمرة المحاولة الجديدة، وقد تولى بنفسه وبشكل مباشر زمام أمورها وتسييرها على أكثر من طريق؛ تمثلت إحداها بإبعد القوى المنافسة بعد إضعافها، ونجح في ذلك إلى مدى ليس ببعيد، وتمثلت الثانية بالتدخل العسكري المباشر في أكثر من مكان في العالم، كلما دعت المصالح الاستراتيجية للقوى إلى ذلك، دون أن يأبه بالعالم ممثلاً بمنظمة دولية أو مشاعر ورأي عام دوليين. وتمثلت الثالثة بهجمة العولمة (السلاح الجديد) في غزوها الثقافي والاقتصادي لشعوب العالم وحضاراتها .
كما تمثلت الطريق الرابعة بإيجاد قاعدة عامة في تشريع القوانين وبناء مؤسسات، تتصف بالعالمية أيضاً تسمح للقوى بالتدخل في دول العالم كلما دعت مصالحه الاستراتيجية إلى ذلك، وسيكون تدخلهم هذه المرة مبرراً وشرعياً لدفاعه عن حقوق الإنسان، مرحباً به من قبل شعوب تلك الدول؛ لأن ظاهرة حماية حقوقهم ضد بطش حكامهم. وقد يعملون على ديمومة بطش الحاكم في أهم بقاع العالم ولو إلى حين، لإنهاك الشعوب وإضعاف الدول، ولديمومة تدخلهم في تلك البقاع.
فإذا ما انتهى الحاكم، اتجهت أنظار الشعوب إلى هؤلاء الفاتحين المحررين بالشكر والامتنان وظاهر مما تقدم أن فكرة الحق هي الأخطر في هذه المعادلة الشائكة المعقدة. لأنها الأساس في بناء التشريعات القانونية، والمعيار في تحديد أبرز المفاهيم الإنسانية، كالعدل والظلم والخير والشر والمشروعية واللامشروعية والمصالح – مقاصد التشريع – ونحو ذلك. وما كان سوى ذلك فهو فرع منه أو ثمرة له .
والعالم محكوم بمنهجين على وجه الإجمال: منهج سماوي، ومنهج وضعي. تمثل الأول الشريعة الإسلامية الخالية من التحريف والتبديل. وتمثل الثاني بما سوى ذلك. وكلا المنهجين يعتمد العقل في التشريع. أما العقل في المنهج الإسلامي فلفهم التنزيل وأسراره ومقاصده، ومن ثم العمل على كشف أحكام كل ما لم يرد به نص في ضوء ذلك وبما يُصلح الواقع. وأما المنهج الوضعي فلإبعاد نفسه عن الشرائع المنزلة أعتمد العقل في الأمر كله، وان تجاذبه تضارب المصالح وشح النفوس.
وبناء على ما تقدم أوزع البحث بعد هذه المقدمة، على أربعة مباحث وخاتمة .
أخصص المبحث الأول في : دور العقل في التشريع .
والمبحث الثاني في : فلسفة الحق في المناهج الوضعية ودور حقوق الإنسان فيها .
والمبحث الثالث في : فلسفة الحق في الشريعة الإسلامية ودور حق العبد فيها .
والمبحث الرابع في: موازنة بين أحكام الحقوق في المنهجين؛ الإسلامي والوضعي.
والخاتمة؛ وفيها نتائج البحث والتوصيات .
المبحث الأول
دور العقل في التشريع
غير خافٍ على أحد أن لهذا الوجود نظامين من حيث التفصيل .
أولهما : قائم في الموجودات جميعها، غير متوقف على تدخل الإنسان. والثاني : متوقف على تدخل الإنسان، ولما كان كذلك فهو نظام تكليفي من حيث أن يلقي بأعباء على الإنسان المكلف تتمثل بتحصيل علم بأنه مكلف وبما كلف به ثم بأداء إيجابي (القيام بعمل) أو سلبي (الامتناع عن عمل).
وهذا النظام، على هذا النحو، يستلزم وجود مكلّف (حاكم)، ومكلّف (محكوم عليه)، وتكاليف (محكوم فيه)، ومصلحة يتوقف تحققها الفعلي على أداء التكاليف (حكمة التشريع) ()
والعلاقة بين النظامين قائمة مقام الدليل المرشد للإنسان إلى الحق في الاعتقاد والخلق والعمل وهذا ما تضاف عليه عمل العقل السليم مع ما نزل به الوحي.
فمن حيث الاعتقاد، فالموجودات لها موجد متصف بالوجود والقدرة. وكون كل موجود منها خصص بصفات وزمان لوجوده ومكان، فهذا يتوقف على مخصص()، والتخصيص إرادة، والإرادة مسبوقة بعلم ()، والعلم متوقف على حياة.
ومن حيث كون النظام فيها متقناً() مستمراً فإن ذلك يدل على العليم الحكيم الخبير المدبر(). فكانت الموجودات بنظامها المتقن سبباً للبحث في خالقها ومدبرها ولحسن الاعتقاد به() ومن حيث الأخلاق: إذا كانت هذه صفات الموجد المدبر الذي أعطى كل شيء قدره، وهو العدل، فينبغي للوصول إلى الكمال الإنساني تخلق المكلف بهذه الأخلاق بمعنى محاكاتها والتحلي بها(). ومن حيث العمل: إن هذا النظام المتقن هو الصورة الواجب محاكاتها من قبل الإنسان المكلف في أدائه لتكاليفه والامتناع عن كل ما يخل بميزانه ().
وبيان هذه الصورة النظامية المتقنة يعود إلى صفة المفصّل (). كل ذلك ليرتبط النظام التكليفي بالنظام الوجودي. عقيدة وخلقاً وعملاً. ولذلك جبل العقل على النظر في ملكوت السموات والأرض، والبحث عما وراء ذلك، أي في موجدها ومدبرها، وهذه من الفطرة التي فطر الله الناس عليها(). واللازم لاكتمال هذا النظر قدرة العقل على الإحاطة أو العلم الكامل بهذا النظام الوجودي وبترابط العوالم فيه، وبوجه ترابطها وميزان ذلك. والعقل يظهر كلاله عند محاولته الخروج عن المحيط المحسوس لقدرته، وهو صور المدركات في عالمه الدنيوي. لأنه جبل عليها، وهي مادته في التفكير () فاحتاج العقل لذلك إلى ما يحرر فيه كامل قدراته وطاقته ويسدد نظره.
وتحرر طاقات العقل يكون بجماع أمرين : أولهما قبول الوحي والإيمان بما جاء به والاستعداد للعمل به. وهذا هو الجانب العقائدي، والثاني محاربة شح النفس وفرط الشهوات؛ ليتحرر من أسرها وتسخيرها له لإشباع حاجاتها المتجددة غير المتناهية، وهذا هو الجانب الآخلاقي. والعمل يبنى على الجانبين معاً.
ومن ثم فبعد ورود الشرائع السماوية أصبح للإنسان دعامتان في نظره وتدبيره، النقل والعقل، أي أدلتهما.
ومعلوم أن البشرية مرت بمراحل تدرج تربوي عقائدي لتنتهي إلى الغاية في الكمال التشريعي والمنهجي؛ العقائدي والأخلاقي والعملي، في الشريعة الإسلامية، ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما كانت الشرائع السماوية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم تركز على الجانب العقائدي وتعطيه المجال الأرحب في الأحكام. وعلاقة الشرائع السماوية بالعقل تظهر من خلال كونها مؤكدة لعمله، أو مرشدة ومسددة له، أو مخبرته عما لا طاقة به لإدراكه بنفسه دون خبر سماوي، كما في الأمور الغيبية ومنه أمور البرزخ والآخرة والحساب والنعيم والعذاب...، والعوالم من العرش وعالم الملكوت إلى الذرة وعالم الملك، وأنها عوامل مترابطة يتأثر كل منها بالآخر ويؤثر فيه().
وبذلك يكتمل عمل العقل لاكتمال بنائه على مقوماته الذاتية العلوية والسفلية، أو الروحية والمادية. معتمداً في ذلك على ما جاءت به الشرائع السماوية(). وبذلك وحده يظهر المنهج المتكامل الذي تظهر فيه صور العوامل وآثار ترابطها. فكمال النظام في الواقع وتمامه لازم لكامل العقل الذي يعبر عن نفسه بواسطة الأداء الإيجابي والسلبي. وكمال العقل لازم لاكتمال جميع مقوماته: النظر السليم والوحي ويمكن عرض ذلك بمعادلتين :
الأولى : عقل سليم (أي نظر سليم) + وحي صحيح = منهج تام وصالح .
والثانيه : منهج كامل + أداء صادق موافق = واقع صالح سعيد .
ومما تقدم يعلم أن غياب الشرع السماوي لعدم بلوغ الدعوة، أو تغييبها لعدم الاعتقاد بها أو بالامتناع عن العمل بها كلاً أو جزءاً، تكبراً أو جهلاً، يوجب بقاء العقل غير مكتمل البناء مهما سمت منازل أصحابه ()، هذا في الحالة الأولى. ويوجب وهن بنائه مع وجوب نقصانه في الحالة الثانية.
وعلى ذلك فموازنة العقل الكامل بالوحي بالعقل الذي ينقصه الوحي وعلومه، موازنة لبيان ما فات الثاني من العلوم والمعارف التي يقتضيها صلاح واقعه وقد يعبر عن الأول بالحق والثاني بالباطل، من حيث مطابقة الأول للواقع دون الثاني(). وقد يعبر عن الأول بالصواب لإصابته الحق وعن الثاني بالخطأ لعدم قدرته على بلوغ الحق في المسائل، ونحو ذلك. بمعنى أنه لا منافرة بينهما بإطلاق وتضاد من جميع الوجوه. ويجب الفهم بأن أحدهما جوهر له استعداد تام على إدراك العلوم والحقائق، وله قدرة على بثها في الواقع. والثاني استعداده في الإدراك وبالتالي قدرته على البث يقصران عن بلوغ منزلة العقل الكامل بمنازل، ولذلك لا يصدر عنه صلاح كامل في الواقع فلا ينصلح الواقع به الانصلاح الواجب .